وطنية - كتب النائب زياد الحواط على منصة "إكس": "أي نتائج مالية تحققت بعد تطبيق قرار كهرباء لبنان بزيادة التعرفة ورسم العداد المثقل بالمخالفات؟ كان الهدف تحقيق التوازن المالي وتوفير التمويل اللازم لشراء المحروقات وزيادة التغذية. وها نحن اليوم أمام وضع كارثي: العودة إلى التهديد بالعتمة الشاملة وعدم قدرة مؤسسة كهرباء لبنان حتى عن دفع ثمن النفط العراقي وطلبها من الدولة إستمرار تسديد ثمن هذا النفط. رسم العداد يحتسب بمعزل عن ساعات التغذية ويخالف بذلك نظام إستثمار كهرباء لبنان، ويكبّد الإقتصاد بمختلف قطاعاته الإنتاجية والخدماتية والسياحية والمواطن أعباء مالية لا تحتمل في ظل أوضاع إقتصادية صعبة، نتجت عن الإنهيار وكانت إدارة قطاع للكهرباء من أهم أسبابه. الحل إلى حين تحقيق لامركزية الكهرباء والإجازة للقطاع الخاص بإنتاج الكهرباء التي أصبحت حاجة ملحة وضرورية في أسرع وقت ممكن والتي سوف نقوم بكل ما يلزم للإسراع بتحقيقه ، هو في إعادة النظر بالتعرفة وبرسم العداد بحيث يتناسب هذا الرسم مع ساعات التغذية. أما بالنسبة للتعرفة، فالمطلوب إعادة النظر بها في ضوء انخفاض أسعار النفط وعدم تحميل المشترك أعباء الهدر والتعليق. ومن دون وضع حد للتعديات على الشبكة، يبقى عبثاً التفكير بنتائج مالية إيجابية من قرار زيادة التعرفة”.
هل الحراثة العميقة للأرض ، مفيدة دائما ؟!
النظام الإقليمي المرتقب أو المفترض هو نظام هجين غير متجانس. وهو نظام مركب ومعقد للغاية، وفيه الكثير من التداخلات والتشابكات والتقاطعات والتوازنات.
ثمة مؤشرات تفيد بأن النظام الإقليمي في المنطقة يجتاز مخاض تغييرات وتحوّلات وتبدلات راديكالية ودراماتيكية. بعضها يجري بطريقة سلسة ومقنعة، بمعنى أنها غير مرئية وغير معلنة؛ وبعضها الآخر يحصل بطريقة عنيفة، تترك آثاراً عميقة، بعد أن تحدث مفاعيل بعيدة المدى وطويلة الأمد. وقد اجتاز هذا النظام الإقليمي نفسه – منذ نشأته وحتى حينه – العديد من المحطات التاريخية والأحداث السياسية والأمنية والعسكرية والإستراتيجية؛ كما شهد معها الكثير من التصدعات البنيوية والتخبطات السلوكية والارتباكات أو الاضطرابات الوظيفية.
فما الذي يمكن الإدلاء به بخصوص مسألة النظام الإقليمي بين الماضي والحاضر والمستقبل؟ وما الذي يمكن تدوينه من الملاحظات ذات الصلة بالنظامين البائد والعتيد؟
بعد أن بلغ المدّ القومي العربي ذروته خلال النصف الثاني من القرن المنصرم، أخذ يتراجع تدريجيّاً مع وفاة الرئيس المصري الراحل والقائد العربي التاريخي جمال عبد الناصر.
فانتهت معه الحقبة الذهبية من تجربة مشروع الوحدة القومية العربية، التي تخللتها انتكاسات، حققت إنجازات وانتصارات، وتضمّنت محاولات عديدة بقصد الوحدة أو الاتحاد من هنا وهناك. في تلك الحقبة أيضاً، اكتملت عملية بلورة مفهوم الأمن القومي العربي في الخطاب السياسي، في الممارسة السياسية، كما في الوعي السياسي، أي في النفوس والأذهان والعقول والقلوب لدى الشارع العربي أو الشعب العربي والرأي العام العربي، حتى وصل إلى القمة في اتجاه تاريخي تصاعدي، قبل أن ينتقل بعدها إلى سلوك اتجاه سياسي انحداري منذ تلك اللحظة، من دون الاستطالة أو الاستفاضة في المراجعة التاريخية لتلك الحقبة.
مع الأسف، لم يكتمل أبداً عقد مشروع الوحدة القومية العربية بميزان الحداثة السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ لكنه حفر عميقاً في تاريخ شعوب الأمة العربية ووجدانها، كما ترك أثراً عظيماً، بصرف النظر عن تعثر التيار القومي العربي، أو لنقل بالأحرى التيارات القومية العربية، وتعذر بل فشل الرهان على صعود فكرة الوحدة القومية العربية.
وظل هذا الوطن أو العالم العربي يتخبط حتى حينه، وبعد انقضاء السنوات والعقود، في ظل شيوع حالة من التيه والضياع بالنسبة إلى الثوابت، القناعات، الخيارات، الرهانات، الرؤى والمشاريع. وقد تلا انتهاء ظاهرة المد القومي العربي ومشهدية صعود الفكرة القومية العربية، كمفهوم سياسي مشترك ومشروع سياسي جامع – بروز تيار ومدرسة بل تيارات ومدارس الإسلام السياسي، من دون أن يتمكّن هذا المفهوم السياسي، الذي خلف مفهوم الوحدة القومية العربية ومفهوم الأمن القومي العربي، من حسم الموقف السياسي والتاريخي، لناحية مدى القدرة على الاستقطاب والاجتذاب للمزاج الشعبي، بما يؤهله لوراثة الحقبة الزمنية السابقة والفكرة السياسية السابقة.
إن الأحداث السياسية والأمنية الأخيرة في العديد من بلدان المنطقة العربية طيلة العقد الماضي، والتي بات يُصطلَح على تسميتها في الأدبيات السياسية والإعلامية، الغربية والعربية، بـ"ثورات الربيع العربي"، أو لنقل أحداث الربيع العربي – بصرف النظر عن مدى صحة هذه التسمية الاصطلاحية ودقتها – قد نسفت ما تبقى من مفهوم الأمن القومي العربي، بل هي أجهزت عليه إلى غير رجعة. وقد أظهرت أيضاً حالة الانكشاف التي تشهدها دول المنطقة العربية، أو بالأحرى مجموعة الدول العربية، بالنظر إلى ضعف بل غياب الوعي السياسي في المجتمعات العربية ولدى الشعوب العربية أولاً، وهشاشة المناعة أو الحصانة الذاتية في هذه المجتمعات ولدى هذه الشعوب ثانياً، وبالتالي عدم أو انعدام القدرة على مواجهة ومقاومة الضغوط المتأتية من التحديات والتهديدات والأخطار الخارجية والأجنبية، ولا سيما من قبل القوى الغربية، في طور الاستعمار الحديث راهناً، كما في طور الاستعمار التقليدي سابقاً.
أما الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، وربما المفتوحة على الضفة الغربية، فهي لا تدع مجالاً للشك في واقع وحقيقة ترهل بل تحلل مفهوم الأمن القومي العربي، الذي يُفترض أن يتمثل ويتجسد نظريّاً وعمليّاً في سلسلة أو مجموعة آليات العمل العربي المشترك، ولا سيما الدفاع العربي المشترك، وليس اندثار فكرة أو مشروع الوحدة القومية العربية فحسب. إن الصمت العربي المريب والمخزي إزاء كل ما يرتكبه ويقترفه العدو الإسرائيلي من الجرائم الموصوفة بحسب القانون الدولي وبلغة الشرعية الدولية، ولا سيما محكمة العدل الدولية الدائمة والمحكمة الجنائية الدولية، يعكس هذا الواقع وهذه الحقيقة بشأن حالة الأمة العربية ومصيرها ومستقبلها.
وهو لا يقتصر – مع الأسف – على الحكومات العربية وحدها، وإنما يتعداها ليطال حتى الشعوب العربية، في سابقة تاريخية، تفيد بالسقوط الأخلاقي للعرب والمسلمين أيضاً. إن العدوان الإسرائيلي على غزة يقودنا، عند هذا الموضع أو المقام بالتحديد، إلى تدوين ملاحظتين اثنتين في هذا المضمار حول حقيقة الواقع العربي لاستشراف المستقبل القريب غير البعيد بعد الفراغ من تحديد الوضعية وتقدير الموقف:
الملاحظة الأولى: مفادها فشل النظام الإقليمي العربي؛ وهو فشل ذريع وفظيع، لا لبس فيه، ولا فصال ولا نقاش حوله؛ فالجامعة العربية، أو بالأحرى جامعة الدول العربية، لا جامعة الشعوب العربية، هي ليست حاضرة، بل هي غائبة، وتكاد تكون غير موجودة في الأصل ومن الأساس، في صورة مشهدية، سياسية وتاريخية، باتت خطيرة للغاية، وتؤكد من دون أدنى شك انتهاء صلاحيتها وانتفاء وجودها!
الملاحظة الثانية: مفادها شلل النظام الرسمي العربي؛ وهو شلل تام، كامل وشامل، لا رجوع عنه، لا أمل فيه، ولا جدوى منه؛ فالحكومات العربية، سواء كانت مجتمعة أو منفردة، لا تحرك ساكناً، ولا تعير أي انتباه أو اهتمام للحدث الجلل في فلسطين المحتلة، في هذه اللحظة السياسية والتاريخية، المفصلية والمصيرية، في حياة القضية الفلسطينية؛ وهي تؤكد بذلك أنها عاجزة، ولا سبيل لإنقاذها، ولا إنعاشها، ولا انتشالها!
أفضى تشتت وتبعثر مرتكزات ومركّبات هذه المنظومة الإقليمية، التي كانت في نواتها الصلبة تقوم على أساس الفكرة القومية العربية، المتمثلة والمتجسدة في شخصية جامعة الدول العربية، منذ حقبة نزع الاستعمار ونيل الاستقلال بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلى بروز حالة سلبية سيئة من الفراغ الإقليمي، مع انحسار وانكسار المد القومي العربي سابقاً، ومن ثم تداعي وتشظي منظومة الأمن الإقليمي على وجه العموم ومنظومة الأمن القومي العربي على وجه الخصوص لاحقاً.
وهو الأمر الذي يعني بالتبعية أن حالة الفراغ على امتداد الإقليم مردها سيرورة التراجع العربي في المرحلة الأولى، بمعنى مسار الانحدار والانحطاط العربيين، إلى أن بلغ الدرك حد الغياب العربي بالكامل من المشهد الإقليمي في المرحلة الثانية. وهو المعطى الإقليمي -الدولي المستجد، الذي كنا نرصد الإرهاصات والمؤشرات له حتى الأمس القريب، قبل أن يدخل حيز التنفيذ الفعلي والعملي، وتتسارع وتيرته مؤخراً.
ومن هنا، ما تزال المنطقة تشهد مخاض ولادة النظام الإقليمي الجديد؛ كما أنها ما تزال تقع ضمن نطاق المرحلة الانتقالية المؤقتة وفي خضم الاضطرابات ذات الصلة. وقد يطول أو يقصر المدى الزمني للفترة الممتدة ما بين طور النظام الإقليمي القديم، الذي انتهى بالتأكيد، وطور النظام الإقليمي العتيد، الذي لم يبدأ بعد، أو بالأحرى لم تكتمل شروطه وأركانه وسماته وآليات عمله حتى تاريخه.
إن هذا ما يفسر الإساءة المتكررة أو المتواصلة للقضايا والحقوق والمصالح العربية، المشتركة والمتبادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية – لكونها وبوصفها القضية المركزية – سواء كان من قبل العرب أنفسهم، أو كان من قبل سواهم، وخاصة من جانب الغرب.
إن تراجع الحضور والدور العربيين في الإقليم وفي العالم بأسره إنما أدى إلى تقهقر المجموعة العربية. وهو الأمر الذي قد يفسر بدوره – إلى حد ما – حالة الوهن السياسي، من منظار السيكولوجيا السياسية، التي يعيشها العرب، والتي بلغت حد توهين المعنويات عندهم، كما الشعور بالمرارة والخيبة والحسرة والإحباط، وبالتالي التسليم غير المعقول، غير المقبول وغير المبرر بالوضع الراهن - الستاتوكو، والتعميم للروح السلبية المفرطة، لا الإيجابية، وكذلك النفس الانهزامي والاستسلامي بين صفوف الأجيال الشابة، الناشئة والصاعدة، والفئات العمرية الفتية. ما يعني أن مفاعيل هذه الحالة العامة والشاملة ومترتباتها المباشرة وغير المباشرة ربما لا تقتصر فقط على هذه المرحلة من التاريخ وهذا الجيل من الأمة، بل قد تتعداهما إلى المراحل التي سوف تلي والأجيال التي سوف تتبع في المستقبل، ما لم يطرأ شيء جديد أو أمر ما.
على أي حال، ثمة من هم معنيون بطريقة أو بأخرى بملء هذا الفراغ الإقليمي، لأسباب ذاتية وموضوعية، وكذلك بالتعويض عن الغياب العربي، أو ربما الإحجام العربي عن تحمّل المسؤولية الإقليمية أو المشاركة والمساهمة في الاضطلاع بالمسؤولية الإقليمية بالحد الأدنى. والمقصود هنا بطبيعة الحال مجموعة من اللاعبين الدوليين والإقليميين القدامى والجدد، في إشارة إلى كل من اللاعبين السياسيين القدامى والمتجددين من جهة واللاعبين السياسيين الجدد من جهة أخرى. إن الإحاطة بمجموعة الفاعلين السياسيين المعنيين بشؤون المنطقة وقضاياها وملفاتها تفترض الأخذ بعين الاعتبار أن هذه القوى الدولية والإقليمية تنقسم إلى مجموعتين اثنتين وتتوزع على مستويين اثنين، وذلك على النحو الذي يتبع أدناه مباشرة:
المستوى الأول والمجموعة الأولى: المقصود هنا القوى الدولية لا الإقليمية، في إشارة إلى القوى الكبرى والعظمى الثلاث – أميركا، روسيا والصين – أو العواصم العالمية الثلاث – واشنطن، موسكو وبكين – بعد أن خرج الاتحاد الأوروبي مؤخراً من السباق الإستراتيجي، وأمست المجموعة الأوروبية راهناً خارج إطار التنافس الإستراتيجي، بحيث تبقى واشنطن في المقام الأول موجودة وحاضرة بقوة في هذه المنطقة الجيوسياسية والجيواستراتيجية، بعد أن أعادت التموضع الإستراتيجي مرتين متتاليتين في اتجاهين متناقضين أو متقابلين ومتعاكسين – قبل الطوفان وبعده ثم العدوان الذي أعقبه – وتليها موسكو في المقام الثاني، بعد أن عادت بالقوة العسكرية إلى الشرق الأوسط أو غربي آسيا من بوابة سوريا، وتأتي بكين في المقام الثالث، بعد أن اقتحمت بالقوة الاقتصادية – كما القوة الناعمة والقوة الذكية – العديد من الساحات والميادين والأقطار.
المستوى الثاني والمجموعة الثانية: المقصود هنا القوى الإقليمية، في إشارة إلى ثلاث قوى أساسية في الإقليم، وهي ناشئة وصاعدة، مع التمييز والتفريق بينها بطبيعة الحال، في إشارة إلى كل من: تركيا، وهي قوة إقليمية بارزة، من حيث المساحة الجغرافية كما الكتلة الديمغرافية، وواعدة أيضاً، من حيث القوة الاقتصادية والعسكرية، لديها مكانتها الخاصة ولديها مشروعها الخاص وحساباتها الخاصة؛ إيران، وهي قوة إقليمية وازنة، من حيث حجمها الجغرافي ووزنها الديمغرافي، وفاعلة أيضاً من حيث القوة العسكرية أكثر منها القوة الاقتصادية، لديها حضورها الخاص، وكذلك لديها امتداداتها الخاصة؛ و"إسرائيل"، أو بالأحرى الكيان الإسرائيلي، الذي يبقى دخيلاً على المنطقة من الناحيتين السوسيولوجية والديمغرافية، لكنه يحظى بتأييد ودعم القوى الغربية كافة، والعديد من القوى العربية لمسارات التطبيع الإستراتيجية وخطوط الإمداد الإستراتيجية.
تبقى هذه القوى الدولية والإقليمية معنية على اختلافها – بدرجات أو نسب متفاوتة ومن مواقع أو زوايا متباينة – بتحديد مصير المنطقة ومستقبل النظام الإقليمي؛ بينما أصبحت القوى العربية الإقليمية، أو العواصم العربية الإقليمية، التي كانت في طليعتها القاهرة في الماضي، وأمست في صدارتها الرياض في الحاضر، وربما المستقبل – إذ حلت الثانية محل الأولى – خارج إطار الحسابات والتقديرات والتوقعات المتصلة بخريطة التموضعات والاصطفافات الإقليمية، في ضوء القدرات، الاتجاهات والمسارات ذات الصلة بعملية الاستقطاب الإقليمي المتفرعة والمتشعبة في المرحلة الحالية، ثم في المرحلة المقبلة بعدها.
مع ذلك، تشهد المنطقة ظاهرة صعود وبروز حلف سياسي -عسكري جديد من نوعه على امتداد الإقليم وفي أكثر من ساحة أو ميدان. وهو صار يُعرَف بمحور المقاومة، كما بات يُصطلَح على تسميته في الأدبيات السياسية والإعلامية، ولا سيما الأدبيات السياسية والإعلامية الخاصة به. هو ظاهرة جديدة من نوعها بطبيعة الحال في العلوم السياسية بصورة عامة وفي العلاقات الدولية بصورة خاصة، ومن ضمنهما الدراسات الدبلوماسية والإستراتيجية. وقد لا يتسع المجال هنا، عند هذا الموضع أو المقام من المقال، للخوض والغوص فيها؛ ولكنها تستأهل حتماً البحث العلمي فيها والنقاش السياسي حولها.
هي ظاهرة مركبة ومعقدة. وهي ظاهرة هجينة وغير متجانسة؛ ولكنها تبدو متماسكة. هي تضم العديد من الفاعلين السياسيين، الدوليين والإقليميين، الحكوميين وغير الحكوميين، من مثل الدول والأنظمة والحكومات والجيوش ومن قبيل حركات المقاومة الشعبية والمنظمات غير الحكومية، العسكرية والمسلحة. وهي تمتد من إيران إلى لبنان وفلسطين المحتلة، مروراً بسوريا والعراق، وليس انتهاء باليمن. وتبقى مثل هذه الظاهرة حتى تاريخه موضع وموضوع الكثير من السجال أو الجدال السياسي، وليس الحوار السياسي فقط.
على أي حال، هي تفرض نفسها بكل قوة، وهي تتقدم بخطى ثابتة. كما أنها تمكنت إبان هذا العدوان الإسرائيلي على غزة – بل قبله، وربما بعده حتى – من تسجيل العديد من النقاط السياسية وغير السياسية في مرمى الأعداء والأخصام، وتحصيل الكثير من المكاسب السياسية وغير السياسية لإثبات نفسها، وبالتالي تأكيد وتثبيت حضور هذا الحلف أو هذا المحور ودوره الجديد، المستجد والمتجدد، في تقرير مصائر شعوب ومجتمعات وبلدان ودول المنطقة، وفي تحديد الترتيبات الإقليمية ورسم المعادلات والتوازنات، الجديدة والمستجدة.
يعيد كل ذلك إحياء النقاش من جديد حول المشروع القديم-الجديد، أو المشروع المتجدد، المعروف بمشروع الشرق الأوسط الكبير، والذي عمل عليه الأميركيون والإسرائيليون ولا يزالون. فمع إطاحة النظام الإقليمي الذي كان قائماً، ومن ضمنه ما تمثله ومن تمثله الجامعة العربية، في إشارة إلى المجموعة العربية، وما تختزنه من التاريخ والحضارة والأمن القومي للعرب، قد تكون الفرصة سانحة، أو بالحد الأدنى قد تكون ثمة فرصة للإجهاز على الحضور والدور العربيين في المنطقة، أو ما تبقى منهما، وكذلك تقويض كل أشكال وأنماط واحتمالات وفرص التضامن العربي، التكامل العربي والاتحاد العربي – الاتحاد بدلاً من الوحدة – إن لم تعد نظرية أو فرضية الوحدة القومية العربية ممكنة أو أقله واردة.
في المقابل، يقف محور المقاومة في مواجهة المشروع الأميركي -الإسرائيلي، إذ إنه يقارع وينازل كلًّا من الأميركي والإسرائيلي. ويستمر هذا التحالف في مراكمة القوة والقدرة والتجربة والخبرة. كما أن لديه مشروعاً في مقابل المشروع الأميركي -الإسرائيلي في هذه المنطقة. ما يعني أن محور المقاومة يحاول أن يتصدى للمشروع الأميركي -الإسرائيلي، وأن يمنع تنفيذه وتطبيقه وتحقيقه؛ كما أنه يواجه السياسات الغربية في المنطقة عموماً، والسياسات الأميركية -الإسرائيلية فيها خصوصاً، ويعمل لأجل تقويض الهيمنة الغربية بصورة عامة، والهيمنة الأميركية -الإسرائيلية بصورة خاصة. فالجديد هنا إذاً هو وجود مثل هذا المشروع المناوئ والمناهض لأميركا و"إسرائيل"، ومن خلفه وجود الرؤية والمنهجية والخطة، وما إلى ذلك من العناصر والعوامل والمقومات والشروط.
وعليه، النظام الإقليمي المرتقب أو المفترض هو نظام هجين غير متجانس. وهو نظام مركب ومعقد للغاية، وفيه الكثير من التداخلات والتشابكات والتقاطعات والتوازنات.
هو ليس حكراً على العرب وحدهم بطبيعة الحال؛ ولكنه قد لا يكون أيضاً أسير ورهين الهيمنة الأحادية، الغربية على وجه التعميم، أو الأميركية على وجه التخصيص.
وهنا بالذات وبالتحديد، قد تكمن الفرصة التاريخية في إسقاط مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومن ثم استئناف واستكمال هذه الصيرورة التاريخية لإعادة تكوين أو تشكيل النظام الإقليمي بكامله، بطريقة مختلفة وبصورة مغايرة، على أسس تمنع الاحتكار للنفوذ الدولي -الإقليمي، ممارسة الهيمنة الأحادية، استمرار الاستعمار الحديث بعد انقراض الاستعمار القديم، الاستكبار والغطرسة.
هي فرصة بالتأكيد، وهي مجرد فرضية علمية، قد ترقى أو لا إلى مرتبة النظرية العلمية، المثبتة والمتحققة. هكذا تبدو هذه اللحظة من حياة المنطقة – في هذا السياق وهذا التوقيت – غير مسبوقة.
يستمر المخاض الطويل والعسير لولادة النظام الإقليمي الجديد، كما الانتقال من حيز النظام الإقليمي القديم إلى حيز النظام الإقليمي الحديث. في الواقع والحقيقة، إن هذا المخاض الطويل والعسير عبارة عن سيرورة مستمرة ومتواصلة من الأحداث والمحطات والتطورات والمستجدات المتداخلة والمتشابكة.
وهو رهن بما سوف يؤول إليه العدوان الإسرائيلي على غزة أخيراً، بعد أن كان "الربيع العربي" أحدث فعله وترك أثره على صعيد ماهية النظام الإقليمي وطبيعته مع بداية القرن الحالي، وكان قد سبقه انحسار المد القومي العربي وانكساره وانفراط عقد الوحدة القومية العربية إثر منتصف القرن المنصرم، بحيث أنه لم يعد حاضراً ولن يكون مستقبلاً نظاماً إقليميّاً قوميّاً عربيّاً خالصاً!
خرائط نتنياهو – ترامب، باتت عنواناً للمرحلة التي يعمل اليمين جاهداً على إتمامها. الأول أظهر خريطتين في أسبوع واحد، لا أثر فيهما للضفة الغربية. والثاني ظهر كما لو أنه يرى خريطة للشرق الأوسط للمرة الأولى!
لست من أنصار نظرية "الدافع الشخصي" في تفسير سلوك بنيامين نتنياهو، ولا أنا ممن يعتقدون أن "الحماقة" وحدها هي ما يدفعه إلى إدارة الظهر لكل الأصوات الداعية إلى وقف الحرب والذهاب إلى إبرام صفقة لتبادل الأسرى والسجناء، ومن باب أولى، عدم الذهاب إلى مغامرة في الجبهة الشمالية مع حزب الله والمقاومة اللبنانية.
لا يعني ذلك، لحظةً واحدة، انعدامَ أثر العوامل المتعلقة بمستقبل نتنياهو الشخصي ومستقبله السياسي في تقرير سلوكه وحسم قراراته وخياراته، كما لا يعني، أيضاً، نفي أثر الحسابات الخاطئة والتقديرات المستمدة مع نظرة إلى الذات والآخر، عنصرية واستعلائية في مضمونها. هذه العوامل حاضرة في حسابات الرجل، لكنها لا تحتل المكانة الأهم في "لائحة" دوافعه ومحركاته.
ومن الخطأ أساساً، ونحن نتحدث عن مواقف "إسرائيل" وخياراتها طوال العام الذي أعقب زلزال السابع من أكتوبر، أن نحيلها على رجل واحد: نتنياهو، أو حتى على حفنة من الرجال: بإضافة سموتريتش وبن غفير إليه. نحن نتحدث عن تيار ديني متصهين، أو صهيوني متدين، عنصري في جوهر مواقف وقناعاته الأيديولوجية، وفاشيّ من طراز تخجل منه الفاشية والنازية في طبعاتهما الأولى.
نتحدث عن تيار، يضرب عميقاً في تربة المجتمع، ونجح في التسلل إلى أعلى ذرى الهرم في "الدولة"، سياسياً وعسكرياً وأمنياً، وصار صاحب الكلمة العليا في مؤسسات صنع القرار فيها. نحن نتحدث عن تيار، يتوج مسيرة أكثر من عشرين عاماً من التحولات والانزياحات المنهجية المنظمة، والتي نقلت "إسرائيل"، مجتمعاً و"دولةً"، إلى ضفاف أخرى، غير تلك التي أرادتها "الطليعة الأشكنازية" من "الآباء المؤسسين"، والذين انتموا، في أغلبيتهم العظمى، إلى مدرسة صهيونية – علمانية – ليبرالية، غربية الثقافة والميول، وغربية هنا تحيل على "الزمن الكولونيالي"، لكن بمضامين إلغائية وإحلالية في تعاملها مع المستعمَر (بفتح الميم)، مع جرعة فائقة من قيم الحداثة والحرية والديمقراطية، المحصورة فقط في مجتمع المستعمِر (بكسر الميم).
هي مفارقة التاريخ وسخريته في آن واحد. علمانيون، يساريون في أغلبيتهم الأعم، معظمهم لا يؤمن بالله، بيد أنهم جميعاً يؤمنون بـ"بوعده لشعبه المختار"، يقيمون دولة على ركنين: الخرافة والمجزرة. يُنشئون نظاماً يحاكي النظم الغربية في قواعده ومنظوماته، لكنه مجتمع ما فتئ، منذ مئة عام، يرقص فوق جثث الضحايا، ويمارس طقوساً احتفالية حول أنقاض القرى والبلدات المهدَّمة، في استعادة لبدائية الإنسان وهمجيته، قبل أن ينخرط بعمق في "الانتظام الاجتماعي العام".
مفكرون كثر، أغلبيتهم من مدرسة اليسار، قالوا مبكراً: إن شعباً يستعبد شعباً آخر، لا يمكن أن يكون حراً. البعض قال إن تلكم المفارقة، ستفضي حتماً إلى انهيار البعد الغربي – الديمقراطي – الحداثي في التجربة الإسرائيلية، فالاحتلالُ ممارسة تستحق التجريم كما في القانون الدولي، والذي يقوم بها لأعوام وعقود طويلة، لا بد من أن يفقد إنسانيته بالكامل، ولا بد من أن تستيقظ لديه غرائز القتل وشهية الانتقام، مدفوعاً بالرغبة في نفي الآخر، وبالخوف منه في الوقت ذاته. و"الآخر" هنا عرضة للتبدل والتوسع، وقد يشمل فريقاً من أبناء جلدة المستعمِرين. الاحتلال المديد للأرض والشعب الفلسطينيين، خلق أجيالاً من اليهود الإسرائيليين، ليسوا من صنف البشر. هؤلاء كانوا ينضحون بأنياتهم وهم يطلقون صفة "الحيوانات البشرية" على الفلسطينيين في قطاع غزة.
أياً يكن من أمر، وبعد هذه التوطئة الضرورية لفهم صيرورة تحول المجتمع والنخب الحاكمة في "إسرائيل"، نعاود طرح السؤال عن دوافع حكومة نتنياهو ومحركاتها الكامنة وراء هذا السعار المحموم في سلوكها ضد أهل غزة والضفة، واستتباعاً ضد أهل لبنان، وصولاً إلى الأردن، بعد العملية الفدائية عند معبر الكرامة/جسر الملك حسين.
في ظني أن اليمين الإسرائيلي، الذي بدأ مشوار صعوده بعد "انقلاب 1977"، دانت له السلطة والحكم، بعد أن مر طريقه إلى السلطة في عمليات مدّ وجزر، وصعود وهبوط. ولأنه الأقدر، كما يدعي، على حفظ الأمن لليهود الإسرائيليين، فردياً وجماعياً، كانت حظوظه في الوصول إلى السلطة وتعزيز قبضته عليها، أعلى كلما اهتزت الحالة الأمنية كما حدث بعد انتعاش العمليات الاستشهادية في أواسط تسعينيات القرن الفائت، وبعد اندلاع انتفاضة الأقصى التي كانت شرارتها زيارة أرئيل شارون، أحد أكبر أقطاب هذا اليمين، للمسجد الأقصى، قبل أن تدنسه "الأقدام الهمجية" لبن غفير وميليشياته، بعشرين عاماً على الأقل.
يرمي اليمين الديني والقومي بقيادة نتنياهو، إلى إغلاق ملفين استراتيجيين، عجز "الآباء المؤسسون"، من يسار ويمين، عن إغلاقهما:
الملف الأول: حسم الصراع مع الفلسطينيين وتصحيح "أخطاء التاريخ" التي اقترفها بن غوريون وإسحق رابين وأرئيل شارون. الأول، بتوقفه عن تهجير الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 48، ومواصلة اقتراف المجازر والتهجير القسري إلى خارج الخط الذي سيوصف لاحقاً بـ"الأخضر". والثاني، بإبرامه اتفاق أوسلو، وإبدائه الاستعداد للتخلي عن غزة وأجزاء واسعة من "يهودا والسامرة"، وهو ما سيدفع حياتَه لاحقاً ثمناً لإبرامه، بتحريض من نتنياهو شخصياً. والثالث، بسبب مسؤوليته الخاصة عن قرار "إعادة الانتشار" من جانب واحد عن غزة، وتفكيك عدد من المستوطنات في القطاع، في تصرف يوصف اليوم، بـ"الخيانة العظمى"، حتى إن طاول أحد أبرز جنرالات الجيش الإسرائيلي، وأهم الأركان في معسكر اليمين.
حسم الصراع، بدلاً من إدارته كما فعل أسلاف نتنياهو، الحسم بدلاً من "التدرج" كما كانت عليه حال الحكومات المتعاقبة من يسار ويمين، باتا اليوم "استراتيجية دولة"، بعد أن كانا وجهة نظر لأقصى يمين الخريطة الحزبية الإسرائيلية. وهذا يقتضي، من ضمن ما يقتضي، تصفية المقاومة أولاً، وإنكار وجود السلطة الفلسطينية، والعمل على تحويلها إلى "مجلس بلدي موسع"، توطئة للتخلص منها في المقام الأخير، وتوسيع الاستيطان وتسريعه وتكثيفه، والتعجيل في إنجاز مشاريع "الأسرلة" والتهويد في القدس، على نحو يشمل مقدساتها والمسجد الأقصى المبارك، واستباحة مدن الضفة الغربية ومخيماتها وبلداتها، وتجريف كل سبل الحياة المدنية وبناها التحتية، وتحويلها إلى مناطق غير صالحة للعيش البشري، أو إلى "غزة ثانية"، وإطلاق "الرسن" لقطعان المستوطنين وميليشياتهم ليعيثوا قتلاً وإحراقاً وتجريفاً للبشر والشجر والحجر في الضفة، وتنفيذ خطة تهجير على مراحل، تبدأ بتفريغ المنطقة (ج) في الضفة (62 في المئة) من مساحتها، إلى منطقتي (أ و ب)، ثم دفع كل من في حوزته أوراق ثبوتية أردنية (يقال إن عددهم يصل إلى 700 ألف، يشكلون 20 في المئة من سكان الضفة) إلى المغادرة، في عملية ظاهرها هجرة طوعية وباطنها تهجير قسري. الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني تدور رحاها في غزة، بينما عين اليمين الحاكم متسمرة على القدس والضفة.
خرائط نتنياهو – ترامب، والتي تتطاير بكثرة هذه الأيام، باتت عنواناً للمرحلة الجديدة التي يعمل اليمين جاهداً على إتمامها عبر حسم الصراع. الأول أظهر خريطتين في أسبوع واحد، لا أثر فيهما للضفة الغربية. والثاني ظهر كما لو أنه يرى خريطة للشرق الأوسط للمرة الأولى، ليكتشف أن "إسرائيل" كيان صغير وضئيل، وأن الحاجة تقتضي التفكير في توسيعه؟!
إدارة بايدن (والديمقراطيون عموماً) ما زالت على "منهجها" في إدارة الصراع بدلاً من حسمه، وهذا منشأ اختلافها وتباينها مع حكومة نتنياهو، وهذا سبب كامن وراء رغبة الحكومة الإسرائيلية الحالية في تمديد أجَل الحرب إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، على أمل أن يتمكن ترامب (والجمهوريون) من العودة إلى البيت الأبيض ومقاعد الأكثرية في مجلسي الكونغرس، ولتفادي تقديم "هدايا مجانية" إلى كامالا هاريس وحملتها الانتخابية، ولاسيما في ضوء التقديرات أنها ستكون أقل تعاوناً مع حكومة اليمين المتطرف إن بلغت البيت الأبيض، من ساكنه الحالي جو بايدن، الصهيوني الفخور، على رغم "لايهوديته".
الملف الثاني إعادة التشكيل والصياغة لـ"الدولة" والنظام السياسي الإسرائيليين، ليكونا أكثر تعبيراً عن التحولات العميقة في بُنى المجتمع، الديموغرافية والسياسية والإيديولوجية، وأكثر تمثيلاً للنخب الجديدة، الدينية القومية، المزراحية الحريدية السفاردية، والتي تسعى للتخلص من موروث الثقافة والقيم الغربية، و"تطهير الدولة" من رجس بقايا اليسار الصهيوني ومخلفاته. وهي عملية بدأها نتنياهو بنشاط في حكومته الأولى في تسعينيات القرن الفائت، عندما فكك الأنماط الاقتصادية "شبه الاشتراكية والتعاونية"، والتي أقامها "المعراخ"، وهو يواصل اليوم العمل على تفكيك قواعد النظام السياسي الإسرائيلي، أو ما يسمى في أدبيات خصومه بـ"الانقلاب القضائي".
تعاظم دور الدين في السياسة والفضاء العام، وسيادة خطاب "الإلغاء" في حروب الاتهامات المتبادلة بين قطبين ديني وعلماني، سلطة ومعارضة، والدور الابتزازي المُقرّر للوبي الاستيطاني المستند إلى قاعدة ديموغرافية تعادل تعداد سكان "إسرائيل" عند قيامها، وانتقال "إسرائيل" إلى "دولة" حاضنة للميليشيات المدججة بالسلاح وأيديولوجيا الكراهية، والمؤشرات السكانية الدالّة على سيادة هذه المكونات على حساب النخبة الغربية المتمركزة في بعض مدن الساحل، هي بعض من كل عناوين المشروع الذي يسعى اليمين الإسرائيلي لإنجازه، ويعتقد أركان أن لديهم فرصة قد لا تتكرر، لإنجازه بالكامل، أو قطع أشواط طويلة، وغير قابلة للانتكاس، في طريق إنجازه. وربما لهذا السبب بالذات، نجد هذا التناغم بين مكونات اليمين المتطرف في السلطة والمعارضة. لا اليمين في السلطة لديه النيّة للتخلي عن نتنياهو، ولا اليمين في المعارضة لديه خطاب مغاير، وخلافاته مع حكومة نتنياهو إنما تقع في الهوامش وليس في المتن.
والجدير بملاحظته أن سعي اليمين، الأكثر تطرفاً وفاشية، لتحقيق حلمه ببناء "إسرائيل ثانية" أو "مملكة ثانية"، إنما يتقاطع ويتداخل مع سعيه لإنجاز "خطة حسم الصراع" مع الفلسطينيين. فالمشروعان يكادان يندمجان في مشروع واحد، وأي فشل في تحقيق أحدهما سيرتد بأوخم العواقب على الآخر. وربما لهذا السبب، ينظر إلى هذه الحرب بصفتها حرباً وجودية، وربما لهذا السبب أيضاً، يضرب السُّعار معسكر اليمين، فنراه يضرب يمنة ويسرة، وهو يعدّه بعض المراقبين درباً من دروب الحماقة التي أعيت من يداويها، لكنها، في حقيقة الأمر، دفاع مستميت عن "صورة أخرى" و"مستقبل آخر" لـ"إسرائيل" ولصراعها مع الشعب الفلسطيني.
ليس ثمة ما يشي بأن النجاح سيكون – بالضرورة - حليفاً ليمين "إسرائيل" الفاشي في مسعاه لحسم الصراع مع الفلسطيني. ومن المشكوك فيه أن ينجح في مسعاه الثاني لإعادة بناء "الدولة" والنظام السياسي على صورته وشاكلته. تكلفة العمل على المشروع الأول يدفعها الإسرائيليون من أمنهم واقتصادهم وجنودهم وضباطهم ومستوطناتهم الحدودية. والحرب على غزة ما زالت بعيدة عن خط نهايتها، والاحتمالات في جبهات الإسناد ما زالت مفتوحة أمام أخطرها وأفدحها ضرراً.
أما التكلفة المترتبة على المضي قدماً في المشروع الثاني، فستدفعها "إسرائيل" من علاقاتها بالغرب، فضلاً عن يهود العالم، ليس في المدى الفوري والمباشر – ربما - لكن في المديين المتوسط والبعيد، بعد أن تهشّمت صورتها، وتهمّشت مكانتها الردعية، ومع نشوء جيل من النخب الغربية متحرّر من سرديات "إسرائيل" وأكاذيبها وحملاتها الدعائية وابتزازها، الذي بات يطاول حرية الرأي والتعبير، ليس في الدول القريبة منها فقط، كما فعلت دائماً، وإنما أيضاً في مراكز الغرب وحواضره.
هي معركة مفتوحة، تدور بكثافة في قطاع غزة وفي جبهات الإسناد، لكن فصولها تتواصل في شوارع "تل أبيب" والقدس ومختلف المدن في الداخل المحتل، بيد أن أصداءها وتداعياتها تكاد تغطي دول العالم، في قاراته الستّ الآهلة، والنصر في خواتيمها. لن يكون، في المدى الأبعد، لفرسان الفاشية والنازية الجديدة.
وطنية - كتبت صحيفة "الجمهورية": بدأ الملف الرئاسي يعود إلى حجمه الطبيعي بعد حالة التضخم التي أصابته مواكبة للقاء الرياض، وما تلاه من حديث عن تحرّك جديد بدفع سعودي. إذ اكّد مصدر سياسي بارز مواكب للاجتماعات وكواليسها لـ"الجمهورية"، أنّ لا جديد ولن يكون هناك جديد في الملف الرئاسي، حتى بعد اجتماع اللجنة الخماسية المقرّر السبت المقبل. فالمؤشرات المخترقة للانسداد في الملف اضمحلت إلى الحدود الدنيا، وعادت الأنظار جنوباً، حيث ارتفع منسوب القلق مع تصاعد وتيرة العمليات وتوسعها.
ورأى المصدر السياسي، انّ "هناك عدم ارتياح داخلي إلى الوضع العام، ليس بسبب هذه التطورات فحسب، وإن كانت مهمّة على مقياس المواجهة، وإنما بسبب عدم الوضوح في القرار الاسرائيلي الذي يمكن في أي لحظة ان يُتخذ".
وقال المصدر: "مهما اشتدّت العمليات، مؤشراتها غير ذي قيمة في موضوع قرار العدوان الشامل. فهناك مخاطر أخرى وكبرى تتعلق بغزة والضفة تشكّل العامل الأساس في مثل هذا القرار، وقد أصبحت مقاربات الربح والخسارة متفاوتة بين الأطراف، وبالتالي يمكن ان يحدث امر ما كبير لإعادة التوازن في هذه الحرب او لقلبها".
ونفى المصدر ان يكون هناك مقترح جديد أميركي يجري تسويقه لوقف الحرب على جبهة الجنوب "فالأميركي اصبح مقتنعاً اكثر من اي وقت مضى ومعه الفرنسي والبريطاني، بأنّ الحل يبدأ من غزة وينسحب على الجبهات".
ولم يحجب تعطيل "العسكر المتقاعد" انعقاد جلسة مجلس الوزراء المزدوجة في السراي الحكومي أمس، مطالباً بتصحيح رواتبه التقاعدية أسوة برواتب بقية موظفي القطاع العام، الاهتمام بحراك المجموعة الخماسية العربية ـ الدولية المتجدّد، ومبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري المتجددة في شأن الاستحقاق الرئاسي، وذلك في ضوء اجتماعات الرياض الأخيرة بين الجانبين الفرنسي والسعودي، وانتظار عودة السفير السعودي وليد البخاري هذا الأسبوع للقاء بقية نظرائه في الخماسية، تحضيراً لخطوات جديدة علًها تدفع الأفرقاء اللبنانيين قدماً إلى إنجاز الاستحقاق الرئاسي قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية المقررة في 5 تشرين الثاني المقبل.
ولكن كل المؤشرات تدل إلى احتمال فشل هذا الحراك كسابقه، لأنّ بعض القوى السياسية والكتل النيابية المعنية ما زالت غارقة في السلبية، خصوصاً بعدما بدأت تعيش رهانات على التطورات الخارجية ما أفقدها حرّية القرار والاختيار في الشأن الرئاسي، وجعلها في موقع المستسلم للإرادات الخارجية التي يبدو أنّها ما زالت تدير ظهرها للبنان إلّا من زاوية حرب غزة وما ترافقها من مواجهات بين المقاومة وإسرائيل على الجبهة الجنوبية بالتزامن مع استمرار التهديد الإسرائيلي بشن حرب شاملة على لبنان.
لقاءات تسخينية وشكوك
علمت "الجمهورية"، انّ السفير المصري علاء موسى يعقد لقاءات بعيداً من الإعلام تمهيداً لاجتماع الخماسية السبت المقبل، وقد التقى امس الدكتور سمير جعجع على ان يلتقي اليوم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والجمعة رئيس مجلس النواب نبيه بري، وكان التقى رئيس "كتلة الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد الاسبوع الماضي". وقال موسى لـ"لجمهورية": "كنت أحتاج إلى هذه اللقاءات لإعداد الأجواء وتقييم الوضع بعد خطاب الرئيس بري والدكتور جعجع، لتكوين صورة عن أين نقف في الملف ".
لكن مصادر نيابية وديبلوماسية قالت لـ"الجمهورية" انّ شكوكاً بدأت تظهر حول إمكان اجتماع سفراء الخماسية السبت المقبل، أما في السفارة الفرنسية أو في دارة السفير السعودي، وقالت هذه المصادر، ان الاتصالات ما زالت جارية لترتيب المواقف التي يمكن ان تعزز عقد اللقاء، إن كان هناك شيء جديد يستدعي اجراء "قراءة مشتركة" بينهم، توصلاً الى قواسم يمكن ان تتلاقى مع الجهود الداخلية التي يطالبون الجهات اللبنانية بها لتسهيل انتخاب رئيس للجمهورية يتولّى إدارة المرحلة استعداداً لما هو مطلوب من لبنان، لأن ليس هناك من يتولّى المهمّة في غيابه.
وفي الوقت الذي تردّدت المراجع الديبلوماسية في الجزم بمصير اللقاء، قالت مصادر نيابية على تماس مع عدد من أعضائها لـ"الجمهورية" انّ عقد السفراء الخمسة ما زال غير مكتمل الآن في لبنان لكي يجتمعوا، وهو أمر فرض لقاءات ثنائية في ما بينهم دورياً لتقويم المراحل، خصوصاً بعد الحراك الفرنسي الأخير الذي بنى عليه كل من السفيرين الفرنسي والمصري لقاءاتهما مع الأفرقاء اللبنانيين، ولا سيما منها اللقاء بين السفير المصري علاء موسى ورئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد، كما بالنسبة إلى جولة السفير الفرنسي هيرفي ماغرو على بعض القيادات السياسية والحزبية.
ولفتت المصادر، إلى انّ السفير القطري الذي باشر منذ اول امس جولاته على المسؤولين اللبنانيين بلقاء مع وزير الخارجية عبدالله بوحبيب، وأطلق برنامج المساعدات المالية النقدية الممدد له لدعم الجيش اللبناني، ما زال يتريث في بناء موقف متكامل في انتظار عودة السفير السعودي المتوقعة قبل نهاية الاسبوع الجاري.
بوريل الى بيروت
وفي هذه الاجواء، يزور الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية ونائب رئيس المفوضية الأوروبية جوزيب بوريل لبنان اليوم في زيارة تدوم يومين يلتقي خلالها رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي وقائد الجيش العماد جوزف عون، قبل ان يلتقي وزير الخارجية عبدالله بوحبيب الذي سيعود بعده بساعات قليلة من حيث كانا معاً في القاهرة، وسيعقدان مؤتمراً صحافياً مشتركاً في بيروت. كذلك سيلتقي بوريل عدداً من القيادات السياسية والحزبية من بينهم الرئيس السابق للحزب التقدمي وليد جنبلاط.
ملفات مشتركة
وفي انتظار وصول بوريل، كشفت مصادر بعثة الاتحاد الاوروبي في بيروت لـ "الجمهورية"، انّه سيبحث مع المسؤولين اللبنانيين الوضع في غزة وحولها من جوانبه كافة، بالاضافة الى البحث في ما سمّته البعثة "القضايا السياسية الأوسع نطاقاً مع القادة الإقليميين، ولا سيما منها تأثير النزاع على البلدان المجاورة، ومساهمات كل منها في جهود السلام. وكذلك سيتناول البحث مع المسؤولين اللبنانيين ملفات عدة تتشابك فيها مواقف لبنان والاتحاد، ولا سيما منها ملف النازحين السوريين وجهود الإتحاد الأوروبي والمشاريع التي ينفّذها في لبنان في اطار الدعم المتعدد الوجوه، وخصوصاً في القضايا الإنمائية والسياسية، واستعراض دعم الاتحاد الأوروبي لقدرة لبنان على التكيّف وضمان استقراره، فضلاً عن دوره الإقليمي مع مجموعة من المعنيين المحليين والدوليين، بما في ذلك الأمم المتحدة".
وكان بوريل قد بدأ جولته في المنطقة من القاهرة حيث حلّ ضيفاً على اجتماعات مجلس وزراء الخارجية العرب في دورته الثانية والستين بعد المئة، والتقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي ونظيره اللبناني بوحبيب وعدداً من نظرائهم الخليجيين على هامش مشاركتهم في الدورة.
مسؤول اميركي
على الجبهة الجنوبية، تواصلت المواجهات ومعها تجددت المخاوف من توسع الحرب في ظل استمرار التهديد الاسرائيلي بها، وعودة الطيران المسّير والحربي الى شن غارات في العمق اللبناني من مثل الغارة على البقاع الغربي أمس.
ونقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت الإسرائيلية عن مسؤول أميركي رفيع قوله انّ " انّ شنّ إسرائيل حرباً شاملة ضدّ "حزب الله" من دون التفكير في العواقب أمر خاطئ". واضاف: "إذا ذهبت إسرائيل للحرب في لبنان فلن تكون هناك منازل لتعود إليها". واعتبر انّ "اتفاق وقف إطلاق النار في غزة سيفتح الباب أمام اتفاق شامل في لبنان" . مشيراً الى " اننا نحاول منع تصعيد النزاع لأنّه ينطوي على خطر الانجرار إلى حرب إقليمية".
والى ذلك، حذّر مسؤول أميركي كبير خلال مؤتمر MEAD في واشنطن، من احتمال نشوب حرب شاملة بين إسرائيل و"حزب الله" في لبنان، وأشار إلى أنّ مثل هذا التصعيد قد تكون له "عواقب كارثية وغير متوقعة".
وحسب ما ذكرت صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، فإنّ المسؤول الأميركي أشار، إلى أنّه "لا أشك في قدرات الجيش الإسرائيلي، لكن علينا أن نفكر في حقيقة أنّه ستكون هناك عواقب وخيمة على كلا الجانبين". وقال: "يجب على المسؤولين في إسرائيل الذين يريدون خوض حرب ضدّ "حزب الله" من أجل إعادة سكان الشمال إلى منازلهم، أن يأخذوا في الاعتبار أنّه في مثل هذا السيناريو قد يُقتل العديد من الإسرائيليين، ولن يكون لدى كثيرين آخرين منازل ليأووا إليها". وأضاف: "هناك فكرة هي أن نذهب إلى الحرب وبعد ذلك سندمّر كل الصواريخ لحزب الله، وسيكون كل شيء على ما يرام. الأمر ليس بهذه البساطة. لا يوجد حل سحري. لا يمكن تدمير الجانب الآخر. وفي نهاية الحرب قد تدفع إسرائيل ثمناً باهظاً ولا تحقق اهدافها".
وكان وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت قال، "إننا ننقل مركز ثقلنا إلى الجبهة الشمالية مع لبنان مع اقتراب إكمال المهمّات العسكرية في غزة". واعتبر "أنّ اتفاق هدنة مع حركة "حماس" يسمح بالإفراج عن الاسرى في غزة، سيمثّل فرصة استراتيجية لإسرائيل لتغيير الوضع الأمنيّ على الجبهات كلها". وأوضح أنّ "إعادة الأسرى هو الشيء الصحيح الذي يجب القيام به". واعتبر أنّ حماس كتنظيم عسكري "لم تعد موجودة وتخوض الآن حرب عصابات".
168 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع