الأهداف الإسرائيلية للحرب ومن ورائها الأميركية تكاد تكون هي نفسُها في حرب تموز 2006 والحرب على لينان اليوم، تكرارٌ لإسطوانة ممجوجة مُفادها القضاء على حزب الله وتشكيل شرق أوسط جديد.
ما بين الأمس القريب أيّ الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006 وبين اليوم 2024 هناك الكثير ليُقال على صعيد التفاصيل، لا الخطوط العريضة.
فالأهداف الإسرائيلية للحرب ومن ورائها الأميركية تكاد تكون هي نفسُها، تكرارٌ لإسطوانة ممجوجة مُفادها القضاء على حزب الله وتشكيل شرق أوسط جديد، وما تغيّر لم يكن سوى طريقة إدارة الحرب من الناحية التكنولوجية والعسكرية.
مما لا شكّ فيه أن "إسرائيل" تمكّنت في الأيام الأولى من العدوان الموسّع من إيلام لبنان؛ تفجير البايجر ومن ثم أجهزة اللاسلكي وأخيراً وليس آخراً، استهداف مجموعة من القادة الميدانيين في المقاومة الإسلامية، وصولاً إلى الغارة التي أدّت إلى استشهاد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. ولكن يبدو حتى الساعة بأن هذه كانت كلّ الأوراق التي امتلكتها "إسرائيل"، وقد وضعتها على الطاولة دفعة واحدة خلال أيام معدودات، وفي اعتقادها أن من شأن هذه الضربات الموجعة أن تنهي الحرب قبل أن تبدأ.
ولأنّ للميدان الكلمة الفصل، فقد عادت "إسرائيل" إلى خططها المعهودة عبر تنفيذ "عقيدة الضاحية"، والإمعان في التدمير أكان الجنوب أم البقاع أم الضاحية الجنوبية لبيروت. ولكن – كما نعلم جميعاً ـــــ إنّ الانتصار في الحرب لا يمكن أن يتحقّق بالقوة الجوية التدميرية فقط، فكانت وما زالت الأرض هي الحكم.
تقول الصحيفة العبرية يديعوت أحرونوت إنه "وبعد شهر من المواجهة البرية، لم تنجح خمس فرق عسكرية إسرائيلية مع لواء احتياط في التقدّم والتمركز في جنوب لبنان". وتضيف "نحن نتحدّث عن أكثر من 50 ألف جندي، أي ثلاثة أضعاف عدد الجنود الذين شاركوا في حرب تموز.
وعلى الرغم من القوة النارية التي تمتلكها قوات الاحتلال، إلا أنها فشلت في احتلال ولو قرية واحدة في جنوب لبنان". وعزت الفشل إلى فعّالية التكتيكات الميدانية الذكية التي اعتمدها حزب الله.
ما قالته الصحيفة العبرية كان مختصراً للواقع الميداني بلسان الاحتلال. ولكن ماذا عن الداخل اللبناني وكيفية تعامل "إسرائيل" معه؟
- في حين شرعت "إسرائيل" في الساعات الأولى من حرب 2006 في تدمير البنى التحتية للدولة عبر استهداف المطار والمرافق العامة والجسور، ذهبت في حربها اليوم إلى التركيز على البيئة الحاضنة للمقاومة، مع إبقاء التهديد حاضراً للبيئات الأخرى، في إشارة واضحة خبيثة بأن الحرب مع فئة من اللبنانيين لا مع الجميع، وفي ذلك محاولة لزرع بذور فتنةٍ أشدّ خطورة من الحرب نفسها.
- في حرب تموز 2006، عمدت "إسرائيل" في اليوم السادس تقريباً إلى استهداف الجيش اللبناني ومعسكراته، والغرض من ذلك كان تدمير "المؤسسة العسكرية الوطنية" التي أعاد دمجها وتوحيدها الرئيس المقاوم إميل لحود ضمن معادلة النصر "شعب جيش ومقاومة".
أما اليوم وبعد أن أنهكت الأزمات الاقتصادية الجيش اللبناني وبعد أن أصبح رهينة فتات مساعدات الولايات المتحدة، فمن الواضح أن القرار الإسرائيلي (ومن خلفه الأميركي) رسى على تحييده. وربما من هنا نفهم تكتيك إعادة التموضع في الساعات الأولى من العدوان الإسرائيلي الموسّع على لبنان.
أما من نال شرف الشهادة من هذه المؤسسة التي نحترم ونجلّ، فكان للمفارقة الرائد محمد فرحات الذي منع "جيش الاحتلال" من تثبيت شريط شائك عند الخط الأزرق مقابل بلدة عيتا الشعب العام الفائت (تجدر الاشارة الى أن الرائد فرحات من بلدة دير قانون النهر الجنوبية، وهو مسلم الدين، شيعي المذهب، وقد شُيّع في كنيسة مار مارون في بلدة رشعين-زغرتا الشمالية، وربما في هذا المشهد تكثيف لحالة الإجماع اللبناني والفشل الإسرائيلي في محاولات تفكيكه).
- في العام 2006، سارع معظم اللبنانيين إلى احتضان النازحين، وعلى رأسهم التيار الوطني الحرّ بقيادة الرئيس العماد ميشال عون. وهو ما عدّه حزب الله "ديناً في رقبته حتى يوم القيامة".
واليوم يعود مشهد الاحتضان ومعظم مناصري التيار ليسوا ببعيدين عنه، وإن كان من عزّز مسألة الاحتضان الواضح هذه المرة الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط وبيئته الدرزية، إضافة الى رئيس تيار المردة سليمان فرنجية.
وما يبدو مختلفاً في الـ2024 بأن البيئة السنية أيضاً كانت ممن استقبلت النازحين، فأصل الصراع فلسطين ونقطة البداية كانت "عملية طوفان الأقصى". مع الإشارة الى جاهزية الأحزاب العلمانية وعلى رأسها الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي لاستقبال النازحين دوماً، فالاحتضان هو جزء من العمل المقاوم بوجه العدو الإسرائيلي، ولا منّة في ذلك.
- على صعيد الساحة السياسية الداخلية، لم تكن المقاومة الإسلامية وسلاحها محلّ إجماع لا في العام 2006 ولا في 2024. وكما قال سيد شهداء الأمة الأمين العام لحزب الله الشهيد السيد حسن نصر الله في العام 2009 إن الإجماع على المقاومة هو شرط كمال لا شرط وجود.
ومع ذلك فإن الوضع اليوم يبدو أفضل حالاً بكثير، فالأصوات المناوئة للمقاومة تكاد تخلو من الأقطاب والاستقطاب، باستثناء رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع ونغمته بضرورة تطبيق القرار الدولي 1559 أي تسليم سلاح المقاومة؛ ولقاء معراب بمن حضر كان خير دليل على ذلك.
في المحصّلة، يمكن القول بأن ثمة حملاً سياسياً يقع على عاتق رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى جانب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ومن خلفهما النائب السابق وليد جنبلاط، ولا سيما في ظل الفراغ الرئاسي الذي تعيشه البلاد.
- اقتصرت الحرب النفسية في حرب تموز 2006 على الإعلام المناوئ أكان محلياً أو غربياً، إلا أنه خلال هذا العدوان هي الأقسى والأخطر مع حضور مواقع التواصل الاجتماعي والحسابات المشبوهة وسرعة انتقال الأخبار قبل التثبّت من حقيقتها وصدقيّتها. وهذا التحدّي لا يمكن اجتيازه من دون المراهنة على التشبّث بالحس الوطني والإدارك لخطورة المرحلة وما يحضّر للمنطقة.
في كتاب "المقاومة اللبنانية تقرع أبواب التاريخ" يُدرج الكاتب الأردني ناهض حتر تحت عنوان "الدرس اللبناني"، عدداً من المحدّدات لاتخاذ أيّ موقف، من أي طرف كان خلال الأزمات؛ وتحديداً في الحرب مع الاحتلال الإسرائيلي، ومنها:
أولاً: ضرورة تلافي التسرّع في اتخاذ المواقف وإصدار التصريحات.
ثانياً: التوقّف عن الإيمان بأن الولايات المتحدة قوة إلهية لا تقهر، وعدم الركون إلى المعلومات والتحليلات الأميركية، ولكن أيضاً مع عدم إهمالها تماماً بالطبع.
ثالثاً: الإصغاء إلى الرأي الآخر، وأخذ التحليلات المضادة في الاعتبار كعنصر من عناصر اتخاذ القرار.
رابعاً: تلافي الاصطفاف في جبهات مغلقة؛ الأمر الذي يعني طبعاً الانفتاح على قاعدة ثوابت المقاومة.
ونحن نورد هذه البنود، لأنها ويا للغرابة لا تزال صالحة ليومنا هذا رغم مرور 18 عاماً على حرب تموز.
فهل نتعلّم ونتعظ وننجو ببلدنا الحبيب لبنان!...
54 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع