هل هكذا يترك الخليل خليله من دون وداع، وهل يمكن للأحباب والعشّاق أن يلتقوا من جديد، في السجن، أو في الموت، أو في ظل وردة، كما قال ذات يوم الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، رضوان الله عليه.
عندما كتبت قبل نحو أربعين يوماً عن سماحة السيد الشهيد حسن نصر الله كنت أرغب في وضع العبارة المذكورة أعلاه عنوانا للمقال، إلا أن شيئاً ما منعني، لا أعرف هل هو الصدمة التي انتابتني آنذاك، أم اعتقاد راودني بأن السيد ما زال في قيد الحياة، ويقود كما كانت عادته عمليات المقاومة الإسلامية البطلة والشريفة ضد العدو الصهيوني المجرم.
وفي حقيقة الأمر، فإن هذا الشعور راود الكثيرين من أحباء السيد أبي هادي ومريديه، وبينهم صديق عزيز قابلني قبل نحو أسبوعين، حينها كانت شهادة الأمين العام الراحل حُسم أمرها، وأيقن الجميع أنه غادر بالفعل هذه الدنيا الزائلة نحو وجه ربه الكريم، غادرها مجاهداً، ومقاوماً، وصابراً، ومحتسباً، ومؤدياً الأمانة التي حملها على ظهره طوال ثلاثة عقود ونيّف.
في ذلك اللقاء بادرني صديقي بالسؤال: هل فعلاً السيد رحل عن هذه الدنيا؟ أم أن ما جرى كان عبارة عن عملية خداع وتضليل للعدو الصهيوني! وأن سيّد المقاومة، ونصير فلسطين العزيز، ما زال بين ظهرانينا بجسده وروحه! فأجبته بأنه، لشديد الأسف، لم يكن خدعة، وأن كل المؤشرات تقول إنه بالفعل التحق برفاق دربه من الشهداء، وأنه ترك الأمانة لمن سيخلفه من المجاهدين، وهم كُثر - حينها لم يكن حزب الله اختار سماحة الشيخ نعيم قاسم أميناً عاماً له -. في الحقيقة لا أعرف كيف أصف رد فعل ذلك الصديق، وكم هي كمية الأسى والحزن اللذين رأيتهما في عينيه، مع أنه كان يعرف في قرارة نفسه أن السيد التحق بالرفيق الأعلى، بحيث تركني وهو يبكي ويقول: "اللهم أجِرْنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها".
في كل ساحات الوطن العربي والعالم الإسلامي الكبير، وفي أنحاء متعددة من العالم الحر، الذي ما زال يحافظ على طهارته على رغم مخطّطات محور الشر ومكائده، كان سماحة السيد الشهيد مهوى أفئدة الملايين، وعشقهم المقدّس والذي لا غنى لهم عنه، إذ كان يمثّل وحده، رضوان الله عليه، جيشاً من المقاتلين، وأمة من المحاربين، يهز أركان "دولة" العدو بمجرد أن يُطِلّ عبر الشاشة، ويضرب منظومة الجبهة الداخلية الصهيونية بكلمة واحدة، أو بإشارة من إصبعه السبّابة، الذي استمر حتى لحظة استشهاده يرفعه في وجه العدو فقط، على رغم ما أصابه من أذى من بني القربي، وما حل به وبحزبه المقاوم من إخوة الدم والوطن والدين.
أما في فلسطين على وجه الخصوص، فحظي سماحته بمكانة خاصة يكاد لا يضاهيه فيها أحد، كيف لا وهو الذي كان على الدوام ركنها الشديد، وسندها القريب، وداعمها الأول، والمدافع عنها في كل الميادين. كيف لا وقد عُرض عليه رغد الدنيا، وزخرفها، في مقابل أن يتخلّى عن فلسطين، أو أن يتركها وشأنها لتواجه العدوان الظالم الذي يُشن عليها صباح مساء، ليقتل أهلها، ويدمّر بنيتها، ويحوّلها إلى أرض ينعق فوق ركامها البوم.
كيف لا وقد كان سماحته نصيراً للمظلومين في كل مكان، في البوسنة التي تخلّى عنها الجميع وتركها تُقتل وحيدة من دون نصير، وفي العراق عندما كان يُذبح بسيوف المحتل وأتباعه من المجرمين والتكفيريين، وكان مع اليمن العزيز، وقد تحالفت عليه قوى الشر، في مختلف أشكالها وألوانها ومسميّاتها، ومع سوريا، وما أدراك ما سوريا، وقد شُنّت عليها حرب كونية دمّرت حواضرها، ونهبت خيراتها، وقتلت وذبحت عشرات الآلاف من ناسها الطيبين.
كيف لا يحب الفلسطينيون الشهيد السعيد أبا هادي وهو الذي بذل جهداً هائلاً للمساهمة في عودة العلاقة بين بعض فصائل المقاومة في فلسطين والجمهورية العربية السورية بعد ما شجر بينهم من خلافات، وهو الذي وفّر ملاذاً آمناً وما زال للكثيرين من قادة المقاومة الفلسطينية، بعد أن رفضتهم عواصم العرب والمسلمين الأخرى، خوفاً من سطوة أميركا و"إسرائيل ".
هناك كثير مما نعرفه عن نظرة سيد شهداء طريق القدس بشأن فلسطين، وقضيتها، ومسجدها الأقصى المبارك، والكثير أيضاً مما فعله من أجل الدفاع عنها وحمايتها من بطش الاحتلال، لكن لضرورات معينة لا يمكننا ذكر إلا القليل جدا من هذه المعرفة، والتي نعتقد أنها يجب أن تُذكر في وقت ما، ليعرف الجميع، ولاسيّما من المضلَّلين والمخدوعين، ماذا قدّم هذا الشهيد الكبير إلى فلسطين، وكيف ساهم في نهضة مقاومتها لتصبح كما رآها كل العالم في معركة طوفان الأقصى وما تلاها، وكيف تحوّلت بفعل مساهمات الشهيد إلى قوة مَهيبة الجانب، بعد أن كانت تفتقر إلى الكثير من مقوّمات القتال، سواء على صعيد الإمكانات العسكرية، او على صعيد الخبرات والقدرات البشرية.
كان الشهيد، رضوان الله عليه، ينظر إلى القضية الفلسطينية على أنها قضية محقّة، وعادلة، وأن الشعب الفلسطيني تعرّض لظلم تاريخي لم يتعرض له شعب من قبلُ في التاريخ الحديث، وأن أي تقصير في دعم هذه القضية، بكل الأدوات والإمكانات، يعني إفساح المجال للعدو المجرم ليتوسّع أكثر، ويمارس هوايته المفضّلة في ارتكاب المجازر والجرائم بحق كل شعوب المنطقة، وأن أي سقوط للجدار الفلسطيني يعني ذهاب المنطقة برمتها إلى ما هو أسوأ، ويعني أيضاً أن حلم اليهود بـ"إسرائيل " الكبرى سيصبح واقعاً لا مناص منه، وأن كل الأمة، بشعوبها وأنظمتها، ستجد نفسها في مرمى عدوان الاحتلال، الذي كان وما زال يعلن على الملأ أنه سيّد هذه المنطقة، وأنه سيغيّر حاضرها ومستقبلها خدمة لمشروعه الاستعماري القبيح، وأن كل من سيقف في وجهه سيكون مصيره القتل والذبح والفناء.
ضمن هذه الرؤية كان السيد الشهيد يضع المبادئ الأساسية لنصرة فلسطين، وتعزيز قوة مقاومتها، ورفدها بكل ما تحتاج إليه من قدرات وإمكانات ولو على حساب حزبه وجمهوره العريض، وكان يدفع على الدوام في اتجاه استدامة الدعم، مالياً وعسكرياً وإعلامياً وسياسياً، وتوفير الخبرات اللازمة، والتي لم تقتصر على استضافة المقاومين الفلسطينيين وتدريبهم في مناطق متعددة من المنطقة، بل إرسال خيرة رجاله إلى أقرب جغرافيا ممكنة منها، ليوصلوا إليها كل ما تحتاج إليه من دعم، وكل ما يلزمها من إمكانات.
ولا نكشف سراً إذا قلنا إن سماحة السيّد غامر بعلاقة حزبه بجهات كثيرة في المنطقة والإقليم من أجل أن يتواصل دعم الفلسطينيين ومقاومتهم من دون انقطاع، ولاسيّما في قطاع غزة الصغير والمحاصَر، وصولاً إلى الضفة الغربية التي حوّلها هذا الدعم إلى ساحة مواجهة أساسية فشلت "دولة" الاحتلال حتى الآن في إخضاعها أو إطفاء لهيبها، على الرغم من القوة الهائلة التي تستخدمها هناك، والدمار غير المسبوق الذي تقوم به في المدن والمخيمات الفلسطينية، ولاسيّما الشمالية منها.
كما لا نبالغ إذا قلنا إن الفضل في وصول المقاومة الفلسطينية إلى ما وصلت إليه يرجع، بعد الله، إلى سماحة القائد الشهيد، وإلى الجمهورية الإسلامية في إيران، والتي بدورها كانت السند لهذا الشعب، ووقفت إلى جانبه وما زالت في كل الميادين على الرغم مما تعرّضت له من حصار وتضييق.
يمكننا الإشارة كذلك إلى أمر في غاية الحساسية، ربما لم تتم الإشارة إليه من قبلُ، وهو متعلّق بشكل خاص بما كان يُشاع عن محاولة حزب الله، ومن ورائه الجمهورية الإسلامية في إيران، لاستغلال الدعم الذي يقدمانه إلى الشعب الفلسطيني ومقاومته وتجييره في نشر التشيّع في صفوف الفلسطينيين، وأن هناك مشروعاً إيرانياً يقوده الحزب بدأ ينضج ويستوي على سوقه، كما وصفه ذات مرة أحد المفتونين والمدعومين من دولة إسلامية غنيّة وكبيرة، وأن كل الساحات السنيّة مستهدَفة من جانب هذا المشروع الخطير، ولقيت هذه الأكاذيب، للأسف في وقت ما، من يصدّقها حتى بين أهالي قطاع غزة والضفة المحتلة، وبنى عليها البعض مواقفه تجاه الحزب وإيران.
في ذلك الوقت، تم إنشاء جمعيات وتشكيل جماعات بدعم عربي خليجي تحديدا للتصدّي لهذا المشروع المُدّعى، وإفشاله في الوصول إلى أهدافه، مع أن حقيقة الأمر كانت التصدّي لمشروع المقاومة ليس أكثر، وأن كل ما كان يُروّجه من معلومات مضلّلة ما هي سوى غطاء فقط للتضييق على المقاومة، وضرب حاضنتها الشعبية، والتي تعرّضت بدورها لحملات من التشويه غير المسبوقة.
في تلك الفترة، التي كانت صعبة وذات حساسيّة عالية نتيجة الفتنة السنية – الشيعية، التي كان يروّجها البعض، والتي ترافقت مع مشاركة حزب الله في التصدّي للحرب على سوريا، كان للسيد الشهيد موقف عظيم، تمثّل جزء منه بإرسال برقيات إلى كل الفصائل الفلسطينية، أكد فيها عدم وجود أي نيات من هذا القبيل، وأن كل ما يقدمه الحزب وإيران هو واجب أخلاقي وشرعي وديني، وأن السقوط في فخ هذه الادعاءات الكاذبة سيكلّف محور المقاومة ثمناً باهظاً، وسيؤدي في مرحلة ما إلى انفراط عقده، وتفكّك أواصره، بل ذهب السيد أكثر من ذلك، إذ قام بخطوات عملية لا نستطيع ذكرها حالياً ساهمت في إطفاء تلك الفتنة، وقطعت الطريق على كل الساعين لضرب أواصر التعاون والشراكة بين اطراف محور المقاومة.
ختاماً، في أربعين سيد شهداء طريق القدس، وسيد شهداء المقاومة، وفي أربعين عروجه إلى السماوات، وبما أن المقام ضيّق، والحديث طويل، ربما نُفرد له مساحات أخرى في مناسبات مقبلة إذا سمحت الظروف، فإننا نعود لنجيب عن السؤال الذي حمله عنوان هذا المقال، هل تستقيل الوردة من عطرها يا سيد الشهداء؟ وهل هكذا يترك الخليل خليله من دون وداع، وهل يمكن للأحباب والعشّاق أن يلتقوا من جديد، في السجن، أو في الموت، أو في ظل وردة، كما قال ذات يوم الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، رضوان الله عليه. هل أتعبتك هذه الدنيا بهمومها وأثقالها فقررت الرحيل، أم هو الاصطفاء الإلهي الذي اختارك بعد هذه الرحلة الطويلة من التعب والجهاد والصبر والاحتساب.
في كل حال، ما أعرفه، يا سيدي، ومما تعلمناه في مدرسة الصبر والمقاومة، أن الورود لا تستقيل من عطرها، وأن الشهيد لا يذهب إلى الفناء، وأن النصر الأكيد الذي بشرتنا به قادم لا محالة، حتى لو تكالبت علينا كل قوى الشر في العالم، فعطر وردتنا، كما هو دمك المسفوح ظلماً وعدواناً، ما زال يفوح في الأجواء، وينثر عبيره الفوّاح على كل الصابرين والمكلومين والمعذَّبين، ينزل برداً وسلاماً على قلوب المقاتلين في العديسة ومارون الراس والخيام وكل قرى الجنوب الصامد، على قلوب المجاهدين في جباليا ورفح والنصيرات وجنين وطولكرم، يبشرهم بأن وعد الله آتٍ لا محالة، وأن كل قوى الشر لن تستطيع تغيير مجرى التاريخ، هذا التاريخ الذي يسير وفق مشيئة الله، سبحانه وتعالى، وفي عينه، وهو لن يكون على الإطلاق في مصلحة القتلة والمجرمين وشذّاذ الآفاق.
حينها، يا سيد الشهداء، سنتلو آيات التتبير، وننشد أهازيج النصر، وسنعلن الفرح في كل مكان، وما ذلك على الله بعزيز.
53 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع