الشيخ نعيم قاسم... ثبات في مواجهة الكيان وتغيير في مقاربة علاقات الداخل

خطاب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم سيشكّل خارطة طريقة جديدة لكيفية تعاطي الحزب مع الداخل في المرحلة المقبلة مع احتفاظه بسردية الأمين العام الشهيد في مواجهة الكيان وحلفائه. 

بعد أكثر من شهر على تلقّي المقاومة لأكثر من ضربة أمنية كان أقساها اغتيال سيد شهداء الأمّة الأمين العامّ سماحة السيد حسن نصر الله، أعلن حزب الله انتخاب أمين عامّ جديد للحزب وبالتأكيد استكمال ملء كلّ الشواغر التي سبّبتها المرحلة الأولى من العدوان.

وإذا عطفنا ذلك الإنجاز على الواقع الميداني الذي تتكشّف تفاصيله بشكل يومي على الحدود الجنوبية، مع الإشارة إلى تكثيف الكيان لاعتداءاته على المدنيين، بما يمكن أن يدلّل على افتقاده لبنك جديد من الأهداف العسكرية، يصبح من غير الواقعي قراءة المشهد الحالي للمعركة مع الكيان الإسرائيلي وفق السردية التي سوّق لها نتنياهو، بدءاً من اجتثاث حزب الله من لبنان أو دفعه إلى شمال الليطاني، وصولاً إلى محاولة فرض واقع سياسي جديد شبيه بمرحلة اتفاق الـ 17 من أيار بما قد يعدّ مدخلاً لإرساء شرق أوسط جديد عنوانه القضاء على قوى محور المقاومة.

من حيث المبدأ لم تكن الأهداف الإسرائيلية المتمثّلة باجتثاث خطر حركات المقاومة وتغيير الشرق الأوسط علامة فارقة تميّز مشروع حكومة نتنياهو الحالية، حيث إنّ المصطلحات نفسها قد تمّ اعتمادها خلال عدوان تموز عام 2006. غير أن المتغيّر في هذه المرحلة كان في استناد نتنياهو إلى ما حقّقه من إنجازات أمنية من أجل تحقيق مشروع استراتيجي يفترض نجاحه في كيّ الوعي الجماعي لبيئة المقاومة، ودفعها للتخلّي عن قناعاتها وتغيير موروثاتها الثقافية بطريقة قهرية.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف، اتخذ الكيان مسار المسّ بالبنيتين الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك الممتلكات الشخصية للبيئة الحاضنة للمقاومة. 

هذا بالتوازي مع محاولته زرع شرخ بين أطياف المجتمع اللبناني وإظهار تلك البيئة الحاضنة للمقاومة على أنها المسبّب بطريقة مباشرة لكلّ ما يحدث من اعتداءات على مختلف الأراضي اللبنانية، من دون أن نهمل إيعاز الكيان ومن خلفه الولايات المتحدة لبعض الداخل بضرورة التسويق لحتمية نهاية سقوط مشروع المقاومة في لبنان من خلال تشبيهه بواقع المارونية السياسية أو الحريرية السياسية، رغم حجم الاختلاف الجوهري والمنهجي بينهما وبين مشروع المقاومة في الظروف والمسبّبات والأهداف.

حتى اللحظة، لم تنجرّ المقاومة إلى ساحة السجال الداخلي، الذي يعدّه نتنياهو ضرورياً من أجل تحقيق أهدافه، إذ إن الخطاب الأول لسماحة الشيخ نعيم قاسم بعد تعيينه أميناً عاماً لم يخرج عن إطار حصر الجهد، على الأقل في المرحلة الحالية، بالمواجهة الميدانية مع الكيان ومحاولة استعادة التوازن على مستوى قواعد الاشتباك ومعادلات الردع التي اهتزت في الأيام الأولى للحرب.

فقد كانت إشارات هذا الخطاب واضحة لناحية تأكيد استعادة حزب الله للتوازن التنظيمي والعسكري بالإضافة إلى تأكيد قدرته على رسم معالم المرحلة المقبلة على مستوى جبهات القتال والمشروع السياسي، حيث استعاد الأمين العام قراءة الحزب لمشروع المقاومة والتوجّه العدواني للكيان الإسرائيلي بمصطلحات أكدت التزام المقاومة خطاب بدايات مشروع انطلاق الحزب عام 1982.

من ناحية أخرى، لم يكن تبنّي سماحة الشيخ نعيم قاسم لمشروع سيد شهداء الأمة الشهيد السيد حسن نصر الله لجهة اعتماد خيار المقاومة، والإصرار على صوابية خيار الإسناد تحت عنوان الدفاع الاستباقي في إطار تقدير شخص السيد الشهيد فقط، حيث إن الهدف الأساسي للسردية الإعلامية للمقاومة تستهدف إسقاط وهدم معالم السردية الإسرائيلية، ودحض ما عدّه نتنياهو إنجازات تحقّقت على مستوى تغيير الواقع السياسي في لبنان والشرق الأوسط. 

فالإنجاز الذي ادّعى نتنياهو تحقيقه، أقلّه على مستوى التسويق الإعلامي الذي يملك الكيان أهم أدواته، ابتداءً من منظومته الإعلامية والأمنية وصولاً إلى وسائل الإعلام الغربية وبعض العربية، من دون أن ننسى الضغوط السياسية والدبلوماسية والغطاء الدولي الذي يبرّر كل سياقات الإجرام التي ترتكبها آلته العسكرية بعيداً عن أي التزام أو احترام لقواعد القانون الدولي الإنساني وقانون الحرب، كان يستند على افتراض حال من الإرباك وعدم التوازن لدى قيادة المقاومة بحيث إن هذه الأخيرة ستساوم على نجاتها مقابل أيّ ثمن يُفرض عليها.

 وعليه، حاول سماحة الشيخ نعيم استعادة المبادرة على مستوى المواجهة بين السرديات بحيث أسقط بنيامين نتنياهو في فخّ الاستناد على الأوهام، ووضعه أمام معضلة عدم واقعية رسم معالم المرحلة المقبلة بعيداً عن معطيات الميدان وموازين القوى المستجدّة. فالإشارة إلى قدرات المقاومة وفشل الكيان الإسرائيلي في حماية مستوطنيه، وعدم قدرته على مواجهة خطر المسيّرات والصواريخ، بالإضافة إلى ترنّحه على الحافة الأمامية للحدود وعجزه عن التمركز في أيّ من القرى التي تدور حولها المواجهات يفترض بالدرجة الأولى تأكيد أنّ التسوية المرتقبة لن تكون إلا انعكاساً حتمياً للواقع الميداني.

وإذا كانت القراءة العامّة للخطاب الأول لسماحة الشيخ نعيم قاسم كأمين عام للحزب قد أظهرت تماثلاً واضحاً مع برنامج عمل سماحة السيد الشهيد، وافترضت انتظام عمل الحزب وفق مسارات محددة سابقاً، فإن جانباً آخر يرتبط ببعض الإشارات التي أرسلها سماحة الشيخ نعيم تفترض تحوّلاً، قد يكون جذرياً على مستوى التعاطي مع الداخل في مرحلة ما بعد الحرب. فبعد تأكيد حتمية الانتصار والثقة بقدرة المقاومة على إسقاط المشروع الإسرائيلي بكامل أدواته، توجّه الأمين العام للداخل اللبناني بلغة لم نعهد لغةً بوضوحها أو قسوتها في السابق، حيث أشار في أكثر من مكان إلى دور بعض الداخل ومراهنته على نتيجة الحرب. 

في عام 2000، أهدى سيد شهداء الأمة الشهيد السيد حسن نصر الله الانتصار والتحرير إلى كل لبنان، وأظهر انفتاحاً على الداخل على قاعدة عدم استثمار الانتصار على الكيان في السياسة الداخلية. تكرّر هذا الأمر عام 2006، حيث ترفّع الحزب عن محاسبة من استقبل كوندليزا رايس بالقبلات وراهن على ولادة شرق أوسط جديد على حساب دماء حزب الله وبيئته الحاضنة. 

ثم تكرّر هذا الأمر في محطات كثيرة، كان أبرزها في الآونة الأخيرة ما حدث في الشياح وخلدة عام 2021. أما في خطاب اليوم، فإن سماحة الأمين العام قد ألمح بطريقة ضمنية إلى تغيّر جذري في السلوك والتعاطي، حيث إنه أشار إلى أن الحزب سيخرج من هذه المعركة أقوى في الخارج والداخل. فإذا كان من الطبيعي أن تنعكس نتيجة هذه المعركة على مستوى المعادلات الإقليمية انطلاقاً من كسر طموح وجموح نتنياهو نحو تغيير جذري في الشرق الأوسط، فإن علامات الاستفهام ستطرح بقوة حول معنى أن الحزب سيكون بعد المعركة أقوى في الداخل.

فالمعروف أن الحزب قبل طوفان الأقصى والتصعيد الأخير لم يكن يفتقد لأدوات القوة التي قد تسمح له بفرض هيمنة خشنة على الواقع السياسي في الداخل اللبناني، وإنما كان الأمر يرتبط بقرار تبنّاه الأمين العام الشهيد بقوة. وعليه، يمكن أن يُستنتج من الكلام الأخير لسماحة الأمين العام الشيخ نعيم قاسم أن الحزب سيتعاطى مع الداخل في المرحلة المقبلة انطلاقاً من قرار استثمار أدوات القوة التي يمتلكها في السياسة الداخلية. 

فالمرحلة الحالية جعلت الحزب يستشعر حجم انغماس بعض الداخل في المشاريع المعادية والرافضة لوجوده، والتي تسوّق يومياً لاعتباره دخيلاً على ما يسمّى بالنسيج اللبناني، وبالتالي، بات من الضروري مواجهة هذا الداخل بطريقة أكثر شدة وخشونة.

وعليه، يمكن التقدير في ختام هذا التحليل أنّ خطاب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم سيشكّل خارطة طريقة جديدة لكيفية تعاطي الحزب مع الداخل في المرحلة المقبلة مع احتفاظه بسردية الأمين العام الشهيد في مواجهة الكيان وحلفائه. 

 

Pin It