الغارة الأميركية على اليمن كانت بمنزلة اختبار عملي للقدرات الأميركية على تنفيذ ضربات جوية على أهداف عميقة تحت الأرض، ويرجح أن تشهد الترسانة الأميركية من هذه القنابل تطوراً متسارعاً خلال المدى المنظور.
في ظلال المشهد المتفاقم في الشرق الأوسط، جاء الإعلان الأميركي المفاجئ في السادس عشر من تشرين الأول/أكتوبر، عن تنفيذ ضربات جوية في اليمن، ومنبع المفاجأة هنا كان في استخدام إحدى أكثر قاذفات القنابل الإستراتيجية الأميركية تكلفة على مستوى التشغيل والصيانة، ألا وهي قاذفات "B-2" الإستراتيجية الشبحية، عوضاً عن الاستخدام المعتاد لمقاتلات أف-15 وأف-35، وهو ما أثار سلسلة من علامات الاستفهام حول دواعي استخدام هذه القاذفات الإستراتيجية في مثل هذا التوقيت، خصوصاً أن هذه الخطوة قد تلتها خطوة مماثلة منذ أيام، ترتبط بقرار البنتاغون الأميركي، إرسال نحو 12 قاذفة استراتيجية من نوع "B-52" نحو الشرق الأوسط، لتتمركز بشكل مؤقت.
في ما يتعلق بالضربة الجوية على اليمن، استُخدم في هذه الضربة عدد غير محدد من قاذفات هذا النوع، أقلعت من قاعدة "وايتمان" الجوية في ولاية ميسوري الأميركية، وتنتمي إما إلى جناح القصف الجوي 509، أو جناح القصف الجوي 131، وقد نفذت هذه المقاتلات، ضربات جوية على خمسة مواقع في غرب اليمن. حينها، ظهرت تحليلات عديدة تنظر إلى هذه الخطوة على أنها تأكيد لامتلاك واشنطن القدرة على تنفيذ هجمات عند الضرورة، في أي وقت وفي أي مكان، وهي في ذلك تستهدف بشكل أساس توجيه رسائل إلى طهران، التي تخوض حالياً غمار مواجهة تصاعدية مع "تل أبيب"، عنوانها "تبادل الضربات الصاروخية والجوية منضبطة القوة".
هذا الحدث يبدو لافتاً لعدة أسباب، منها عدم وجود سبب "وجيه" لاستخدام وسائط جوية مكلفة في تنفيذ عملية من المفترض أنها لا ترتبط بحرب فعلية أو مواجهة مع جيش نظامي مسلح بأنظمة دفاع جوي متقدمة، بجانب أن هذه الضربة تمت عملياً من دون إخطار الكونغرس الأميركي، والنقطة الأهم هنا ترتبط بأن بيان وزارة الدفاع الأميركية حول هذه الضربة، حمل بعض التعبيرات اللافتة، أهمها أن عمليات القصف استهدفت "مخازن تحت الأرض للأسلحة والصواريخ بغض النظر عن مدى عمقها تحت الأرض أو تحصينها"، وهو ما فتح الباب واسعاً أمام تساؤلات تبدو منطقية حول نوع الذخائر التي تم استخدامها في هذه الضربة، والتي بالقطع لم تكن ذخائر اعتيادية وإلا لم يكن هناك داع لاستخدام قاذفات مكلفة وذات طبيعة خاصة مثل قاذفات "B-2".
لم تصرح وزارة الدفاع الأميركية بشكل واضح بنوعية الذخائر التي تم استخدامها، رغم أن تصريحات غير رسمية صدرت في بعض وسائل الإعلام الأميركية، ومنها مجلة سلاح الجو الأميركي، رجحت أن الذخيرة التي تم استخدامها هي ذخائر الهجوم المشترك"GBU-31"، المزودة برؤوس حربية خارقة للأرض من نوع "BLU-109"، لكن طبيعة مواقع الأهداف التي قامت هذه القاذفات باستهدافها، وتركيز بيان البنتاغون على أنها أهداف "تحت الأرض"، رجحت بشكل شبه أكيد أن الذخائر التي تم استخدامها في هذه الضربة، هي ذخائر "خارقة للتحصينات" أكثر تخصصاً ونوعية، وتحديداً الجيل الأحدث من القنابل الاختراقية في الترسانة الأميركية، وهي قنبلة "GBU-57A/B"، المعروفة اختصاراً باسم "MOP"، وهي تعدّ عملياً أثقل قنبلة تقليدية تمتلكها واشنطن، وتستطيع قاذفات "B-2" حمل اثنتين منها، علماً أن هذا النوع من القاذفات هو الوحيد حالياً المؤهل لحمل هذا النوع من القنابل الثقيلة، والتي تعدّ امتداداً لأجيال سابقة من القنابل الأميركية الخارقة للتحصينات.
بشكل عام، تمتلك القنابل الخارقة للتحصينات القدرة على تأخير انفجارها بعد اختراق طبقات من الأرض أو الخرسانة، ومع تطور التقنيات المستخدمة في هذه القنابل، أصبحت هناك آليات دقيقة تستطيع تأخير انفجار الشحنة الرئيسية في هذه القنابل، إلى أن يتم تحقيق مدى اختراق معين تحت الأرض. وعلى الرغم من أن أول ذخائر مخصصة لاختراق الأرض، قد تم استخدامها خلال الحرب العالمية الثانية من قبل الجيش البريطاني، فإن أول قنبلة جوية متخصصة في اختراق التحصينات الموجودة تحت الأرض، ظهرت للمرة الأولى ميدانياً خلال عملية "عاصفة الصحراء"، وهي القنبلة الموجهة بالليزر "GBU-28"، ذات القدرة على اختراق سطح الأرض حتى 6 أمتار، وتم إسقاط قنبلتين منها على الأقل، في مواقع بالعاصمة العراقية بغداد، بهدف تدمير مواقع كان يشتبه في وجود الرئيس العراقي الراحل صدام حسين فيها، علماً أن هذه العملية شهدت أيضاً استخدام قنبلة أخرى لاختراق التحصينات تحت- أرضية، وهي القنبلة "BLU-109" التي امتلكت قدرة محدودة على اختراق الأرض، بعمق يبلغ 1.8 متر فقط.
جدير بالذكر أن قنابل "GBU-28"، قد دخلت مطلع القرن الحالي في تسليح سلاح الجو الإسرائيلي، واستخدمها منذ ذلك التوقيت في غاراته التي نفذها في لبنان - خلال حرب عام 2006 - وفي قطاع غزة على مدار السنوات اللاحقة، وقد طورت واشنطن في الفترة التي تلت حرب الخليج الثانية، سلسلة من القنابل الجوية والصواريخ الجوالة المطلقة من الجو، ذات القدرة على اختراق سطح الأرض، على أعماق تتراوح بين 1.20 متر - مثل الصاروخ الجوال المطلق جواً "AGM-84H" - وصولاً إلى الجيل الأحدث من قنابل "GBU-28" المسمى "GBU-28C/B"، التي تستطيع اختراق سطح الأرض بعمق يصل إلى 7.20 متر، علماً أن سلاح الجو الأميركي توسع في عمليات تطوير هذه الفئة من القنابل، لتشمل أيضاً القنابل النووية، حيث أجرى في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، اختباراً للقنبلة النووية الخارقة للتحصينات "B61-12".
كان للغزو الأميركي للعراق عام 2003 دور أساسي في نقل عمليات التطوير الأميركية للقنابل الاختراقية، إلى مرحلة جديدة كلياً، فقد أظهرت التجربة العملية خلال الغارات الجوية على المواقع العراقية، أن عدداً معتبراً من المخابئ الموجودة تحت الأرض على أعماق تتجاوز 10 أمتار، لم تتعرض لاختراقات كافية ولم يلحق بها التدمير الكلي المنشود، لذا عملت شركة "بوينغ" بالتعاون مع سلاح الجو الأميركي، على تطوير قنبلة ثقيلة خارقة للتحصينات، تسمح بتحقيق اختراقات أكبر بكثير مما كانت تسمح به القنابل والصواريخ الجوالة الموجودة في الترسانة الأميركية.
هذه الجهود أدت إلى تطوير قنبلة "GBU-57A/B"، التي تم اختبارها للمرة الأولى في مارس/آذار 2007، وبدأت القوات الجوية الأميركية في تسلم هذه القنبلة بشكل رسمي عام 2011، حيث تسلمت ما مجموعه 20 قنبلة من هذا النوع، علماً أنه في عام 2012، تم رصد أكثر من 80 مليون دولار، لإجراء عمليات تطوير وتحسين لهذه القنبلة، لتصبح قادرة على تحقيق اختراقات أكبر في سطح الأرض. يبلغ وزن النسخة الحالية من هذه القنبلة - التي يتم توجيهها بعد الإطلاق عن طريق القصور الذاتي المعزز بنظام تحديد المواقع العالمي - نحو 14 طناً، وتحمل رأساً حربياً تبلغ زنته 2500 كيلو غرام من المتفجرات المصممة لاختراق الأهداف، وتستطيع تحقيق اختراق في سطح الأرض، يتراوح عمقه بين 40 و60 متراً، حسب نوع الخرسانة المسلحة المستخدمة في تدعيم الهدف المراد تدميره، وهي بذلك تصبح أكبر قنبلة أميركية من حيث القدرة على اختراق سطح الأرض، مع ملاحظة أن القنبلة النووية الاختراقية "B61-12"، لا توجد معلومات موثقة عن عمق الاختراق الذي تستطيع التسبب به في سطح الأرض.
من النقاط اللافتة حول قنبلة "GBU-57A/B"، أن الولايات المتحدة قد سربت بشكل متعمّد في مناسبتين على الأقل، صوراً لها أثناء إدخالها الخدمة في القوات الجوية الأميركية، كانت المرة الأولى عام 2019، وخلالها نشر الجيش الأميركي تسجيلاً مصوراً لعملية إطلاق قنبلتين من هذا النوع، من على متن قاذفة من نوع "B-2"، أما المناسبة الثانية فكانت في نيسان/أبريل الماضي، وظهرت خلالها صورة واضحة لهذه القنبلة في قاعدة "وايتمان" الجوية في ولاية "ميسوري"، مرفقة بتعليق يفيد بأن القاعدة تلقت قنبلتين من هذا النوع لاختبار أدائها. جدير بالذكر هنا أن مصنع الذخائر الجوية التابع للجيش الأميركي في مدينة "مكاليستر" في ولاية "أوكلاهوما"، قد أعلن في أيار/مايو الماضي، أنه يعمل على توسيع قدراته التصنيعية لإنتاج مزيد من قنابل هذا النوع، بحيث تزيد من معدل إنتاج يبلغ قنبلتين فقط في الشهر، إلى إنتاج ما بين 6 إلى 8 قنابل شهرياً.
بالعودة إلى الغارات الجوية الأميركية على اليمن، وبالنظر إلى التجربة السابقة التي استخدم فيها سلاح الجو الأميركي قاذفات "B-2"، لتنفيذ عمليات جوية ضد تنظيم "داعش" في مدينة سرت في كانون الثاني/يناير 2017، يمكن القول إن استخدام هذا النوع من القاذفات، ينطوي في جانب منه على أهداف "دعائية" ونفسية ترتبط بمحاولة واشنطن تأكيد امتلاكها القدرات بعيدة المدى الأكبر والأهم عالمياً على المستوى الجوي، وهذا ربما يظهر بشكل أو بآخر في ضربة سرت. أما ضربة اليمن، فتبدو بالنظر إلى السياق الإقليمي والدولي الحالي، أقرب ما تكون إلى رسالة ميدانية إلى كل من الصين وكوريا الشمالية وإيران.
فالدول الثلاث تعمل على المستوى الميداني منذ سنوات، لتأسيس بنية تحتية عسكرية تحت الأرض، سواء إيران التي كشفت مطلع عام 2023، عن قاعدة جوية تحت الأرض تحت اسم "أوغاب-44"، تقع شمال شرق مدينة بندر عباس، بجانب أنها أعلنت خلال مناسبات سابقة عن قواعد تحت أرضية للصواريخ، أو الصين التي تحتفظ بعشرات منصات الإطلاق تحت أرضية الخاصة بـصواريخها العابرة للقارات، أو كوريا الشمالية التي توسعت خلال السنوات الأخيرة في إنشاء المرافق العسكرية على أعماق كبيرة.
وعلى الرغم من أنه لم يتأكد بشكل يقيني ما إذا كانت الغارة السالف ذكرها على اليمن، قد شهدت استخدام قنابل "GBU-57A/B"، فإن الاحتمال الآخر المتعلق باستخدام "GBU-31" في هذه الغارة، يجعل من هذه العملية، محاولة لاختبار مدى قدرة الذخائر الأميركية على تحقيق اختراقات في المواقع التحت أرضية التابعة لجماعة أنصار الله، وفي حالة استخدام هذا النوع الأخير، يرجح أن يكون هذا الاستخدام قد تم عبر إطلاق عدة قنابل بشكل متتابع على النقطة الهدفية نفسها، بحيث تقوم كل قنبلة بتنفيذ اختراقها للأرض، من النقطة التي انتهى عندها اختراق القنبلة التي سبقتها، وهو تكتيك يتم استخدامه لتوسيع حجم اختراق القنابل الخارقة للتحصينات.
بالنظر إلى ما سبق، وحقيقة أن التقديرات الأميركية لأعماق المنشآت التحت أرضية في كوريا الشمالية وإيران، والتي تشير إلى أن أعماقها تتراوح بين 80 و100 متر على الأقل، يمكن القول إن الغارة الأميركية على اليمن كانت بمنزلة اختبار عملي للقدرات الأميركية على تنفيذ ضربات جوية على أهداف عميقة تحت الأرض، ويرجح أن تشهد الترسانة الأميركية من هذه القنابل تطوراً متسارعاً خلال المدى المنظور لمواكبة التحديات القائمة، بحيث يتم إنتاج قنابل أصغر حجماً وأكبر في قدرتها على اختراق الأرض.
41 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع